عباد الله : إنّا في هذه الأيام ونحن نتذكر دروس الهجرة ، ونتأمل ونتدبر في تاريخ البعثة المحمدية ، ونتدبر قانون الله على هذه الأرض ، وقد جعل انتشار دين الحق وانتشار كل رسالات السماء ، من خلال جهاد ، ومن خلال فكرٍ وعملٍ وصراعٍ ، يدور بين معسكر الحق ومعسكر الباطل ، بين الذين يُرشدون إلى طريق الحياة وبين الذين يوجهون إلى طريق الموت . وهذا هو حال الدنيا منذ القدم
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَر.." [المائدة 27]
هذا هو قانون الأرض ، دائماً كان هناك من يدعو إلى اتجاهٍ ، ومن كان يدعو إلى اتجاه مضاد ، واليوم كذلك ، وغداً سيظل الأمر كذلك ، إنها الأرض بقانونها وبحكمة الله في خلقها .
"..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة.." [البقرة 30]
فكان الإنسان بوجوده ، هو في معنى خلافة الله على هذه الأرض ، وكان الإنسان بوجوده ، إما في طريق الحق ، وإما في طريق الباطل
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " [الشمس 7-10]
فليس الهدف أن يكون الناس جميعاً في اتجاه واحد ، وإنما الهدف أن يظل هذا الاختلاف ، وأن يظل هذا الحوار بجميع صوره وأشكاله ، قائماً على هذه الأرض . وكل الرسل حين ظهروا على هذه الأرض ، حوربوا واضطهدوا ، وكان انتشار دعوتهم من خلال الحوار ، ومن خلال الجهاد ، ومن خلال الاختلاف ، وما يستتبعه من صراعات بصور مختلفة .. إرادة الله في هذا الاختلاف ، إرادة الله في هذا التنوع ، إرادة الله أن يكون هناك الشيطان ، وأن يكون هناك الإنسان الذي هو خليفة الله على هذه الأرض:
"..اهْبِطَا مِنْهَا.." [طه 123]
هكذا خاطب الله آدم وإبليس ، فكانت حكمته أن يتواجد آدم وإبليس على هذه الأرض .
الذي يسلك طريق الحق ، يتخذ الأسباب وقوانين هذه الأرض حتى يستطيع أن ينشر دعوته ، لا يعتمد على خرق للعادة ، ولا يعتمد على أن هناك غيباً سوف ينصره بدون جهدٍ ، وبدون جهادٍ ، وبدون دعوةٍ وحوارٍ وفكرٍ ، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى صراع وحرب على هذه الأرض بقوانينها وبأساليبها . كانت الهجرة إذاً هي في ظل هذا القانون الأرضي . حين اشتد أذى الكفار في مكة ، وحين أصبح رسول الله والذين معه في خطرٍ من وجودهم في هذه البقعة ، والله حافظٌ لهم
وقد يقول قائل ألم يكن يستطيع الله أن يحفظهم في مكة ، وأن يقويهم في مكة ، وأن يجعلهم ينتصروا وهم في مكة ؟
كما قلنا ليست القضية هنا أن نقول أن الله قادرٌ أو غير قادر –حاشا لله- وإنما هو قانون الله ، قدرة الله في قانونه ، وفي آلياته ، وفي أساليبه ، وفي أسبابه ، وفي أن يكون هناك درس للناس جميعاً ، أن يتخذوا الأسباب ، وأن يتبعوا الطريق القويم ، وأن يعلموا دائماً أن هناك فكراً مضاداً ، واتجاهاً مضاداً لهم ولأفكارهم .. فكانت الهجرة هي تعبيرٌ عن اتخاذ هذه الأسباب ، واللجوء إلى مكان حصين آمن ، حتى يعد المسلمون أنفسهم ، ويُجَمِّعوا قوتهم ، ويستطيعوا أن يقفوا أمام هذا الظلام ..
حين ننظر في أحداث الهجرة ، نجد أن هناك أحداثاً خرجت عن المألوف من ظواهر هذه الأرض ، وقد يقول قائل أليس في هذا تناقض لما نقوله من أن القانون سارٍ على الجميع؟ نقول أن ما حدث هو في إطار القانون ، وأن الإنسان يوم يبذل كل جهده وكل قدراته وكل إمكاناته ، فإنه يكون بذلك أهلاً لقوةٍ أكبر من هذه الأرض تساعده في حركته ، لا يكون ذلك وهو يهمل أمراً ، وهو يفرط في سببٍ ، وإنما تكون هذه الرعاية الغيبية يوم يكون قد بذل الجهد واتخذ السبب واجتهد في أمره ، في هذه اللحظة تكون هناك رعاية غيبية للإنسان .. لقد هاجر الرسول ولم يصر على بقائه في هذا المكان ، واتخذ جميع التدابير بقدر استطاعته وإمكاناته ، هنا تتدخل إرادة الله الغيبية ، فتحدث بعض الظواهر التي تساعده في حركته وفي هجرته ، فيخرج أمام المرابطين أمام بيته دون أن يروه ، ويدخل في غارٍ وينسج العنكبوت نسيجه أمامه فلا يدخله من يتابعوه .
هكذا نجد بعض الظواهر الغيبية التي ساعدت ، ولكن في إطارٍ – كما قلنا – من المساعدة لمن اجتهد ، ولمن اتخذ السبب ، واتجه في الطريق القويم . هكذا نجد في أحداثٍ كثيرة ، نجد في بدر وكان المسلمون قلة
"..كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ.." [البقرة 249]
نجد التدخل الغيبي والمساعدة الروحية ، وفي أُحد يوم تخلّى المسلمون عما أمروا به ، لم يتدخل الغيب ليحميهم أو ليساعدهم ، لأنهم لم يساعدوا أنفسهم ولم يلتزموا بما أمروا به .. هذا هو القانون ، على الإنسان أن يبذل كل طاقاته وكل إمكاناته ، لا بالكلام الأجوف ، وإنما بالعمل الصالح ، وبأن يكون قدوةً صالحة ، وأن يكون فكراً منيراً .
يغضب المسلمون اليوم لما يجدوه في الغرب من إهانات لنبيهم الكريم – في نظرهم – والإهانات هي لهم هم ، وقد كانوا أسوأ مثلاً ، لم يفهموا ولم يدركوا ما جاءهم به رسولهم ورسول الله لهم ، وظنوا أنهم بحرفيتهم الشديدة يؤمنون ، ولم يدركوا أنهم بهذه الحرفية إنما هم فرطوا في أمر دينهم الذي أمرهم أن يُعملوا عقولهم ، وأن يتدبروا أمور حياتهم ، وأن يتبعوا ما هو أحسن و أفضل وأقوم ، وأن يتعلموا أن الهدف هو الأحسن والأقوم والأفضل ، وأن الكلمات هي تعبيرٌ عما هو أحسن ، في لحظة ما ، في وقت ما ، في ظرف ما ، وأن العبرة بالمقصد ، وأن على المسلم الحق أن يتأمل في آيات الله وفي أحاديث رسول الله ، بتعمقٍ وتفكرٍ وتدبر ، وأن يتبع المعنى الأساسي الذي يتفق مع أمورٍ أخرى .
فالآيات تفسر بعضها بعضا ، والأحاديث تفسر بعضها بعضا ، ولا يجب أن نختزل قرارنا وعقيدتنا ، بحديثٍ من كلماتٍ محدودة ، قيل في إطارٍ وفي مضمونٍ معين ، وهناك حديث آخر يفسره ويوضحه . لا نأخذ مجرد كلمات مبتورة ، ونقول أنها حديث ، يُبنى عليه فكر ، ويُبنى عليه مسلك ومنهج ، إنما علينا أن ننظر إلى كل الأحاديث وإلى كل الآيات ، كبنيان واحد متكامل يوضح بعضه بعضا ، هناك العام وهناك الخاص ، هناك المطلق وهناك المقيد ، والهدف في النهاية أن تكون أمة صالحة نافعة ، تستطيع أن تقدم شيئاً للبشرية ، وأن تكون مثلاً صالحاً للإنسانية ، في فكرها وعلمها ، في عملها وإتقانها ، في إخلاصها وصدقها ، في تقدمها وازدهارها ، في احترامها للإنسان ولكل كائن من كان على هذه الأرض ، في عقولٍ متفتحة متقبلة متنورة ، وليس في عقولٍ منغلقة متجمدة ، في أمةٍ تعرف هدفها وتعرف مقصودها ، تعرف أن عليها أن تعبد الله حقاً ، بإخلاصها في علمها وفي عملها وفي إخلاصها ، ليست مجرد كلمات يلوكها اللسان ، وليست مجرد حركات تقوم فيها الأجساد ، وإنما في ممارسات ومعاملات ترفع من قيمة الإنسان ، وتجعله أكثر علماً ، وأكثر عملا ،ً وأكثر نفعاً ، وأكثر صلاحاً وإصلاحاً ، فأين هو الإسلام في مجتمعاتنا وفي أفكارنا وفي معتقداتنا؟ . الكل يظن أن هناك من يتربص بالمسلمين ، والمسلمون لا يستحقون أن يتربص بهم أحد ، إنهم يضرون أنفسهم أكثر من أي إنسان آخر ، بجهلهم ، وبقلة فكرهم ، وبتجمدهم ، إلا من رحم الله .
عباد الله : نسأل الله أن يرفع هذه الغمة ، وأن يجعل منا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة ، لنا ولمجتمعنا ولأمتنا.
فحمداً لله ، وشكراً لله ، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله